كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابْنُ قُتَيْبَةَ: فَلَمَّا عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إنْعَامَهُ وَذَكَّرَ عِبَادَهُ آلَاءَهُ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ جَعَلَ كُلَّ كَلِمَةٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ لِتَفْهِيمِهِمْ النِّعَمَ وَتَقْرِيرِهِمْ بِهَا كَقولك لِلرَّجُلِ: أَلَمْ أُنْزِلْك مُنْزَلًا وَكُنْت طَرِيدًا؟ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ أَحُجَّ بِك وَكُنْت صرورا؟ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟. قُلْت قال ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَكْرَارُ الْكَلَامِ فِي {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}.
لِتَكْرَارِ الْوَقْتِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قالوا: إنْ سَرَّك أَنْ نَدْخُلَ فِي دِينِك عَامًا فَادْخُلْ فِي دِينِنَا عَامًا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ.
قلت: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِإِعَادَةِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ كَلَامُ الْعَرَبِ وَغَيْرِ الْعَرَبِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ يُؤَكِّدُونَ إمَّا فِي الطَّلَبِ وَإِمَّا فِي الْخَبَرِ بِتَكْرَارِ الْكَلَامِ. وَمِنْهُ قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا. ثُمَّ قال: إنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ لَمْ يَغْزُهُمْ».
وَرُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ يَقُودُ بِهِ حُذَيْفَةُ وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ فَخَرَجَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا حَتَّى صَعِدُوا العقبة رُكْبَانًا مُتَلَثِّمِينَ وَكَانُوا قَدْ أَرَادُوا الْفَتْكَ بِرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَقال لِحُذَيْفَةَ: قُدْ قُدْ وَلِعَمَّارِ: سُقْ سُقْ». فَهَذَا أَكْثَرُ لَكِنْ لَيْسَ فِي القرآن مِنْ هَذَا شَيْءٌ. فَإِنَّ القرآن لَهُ شَأْنٌ اخْتَصَّ بِهِ لَا يُشْبِهُهُ كَلَامُ الْبَشَرِ لَا كَلَامُ نَبِيِّ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ. فَلَا يَقْدِرُ مَخْلُوقٌ أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةِ وَلَا بِبَعْضِ سُورَةٍ مِثْلِهِ. فَلَيْسَ فِي القرآن تَكْرَارٌ لِلَفْظِ بِعَيْنِهِ عَقِبَ الْأَوَّلِ قَطُّ. وَإِنَّمَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ خِطَابُهُ بِذَلِكَ بَعْدَ كُلِّ آيَةٍ لَمْ يَذْكُرْ مُتَوَالِيًا. وَهَذَا النَّمَطُ أَرْفَعُ مِنْ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ قَصَصُ القرآن لَيْسَ فِيهَا تَكْرَارٌ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ. و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} لَيْسَ فِيهَا لَفْظُ تَكْرَارٍ إلَّا قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وَهُوَ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِجُمْلَةِ. وَقَدْ شَبَّهُوا مَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ بِقول الْقَائِلِ لِمَنْ أحسن إلَيْهِ وَتَابَعَ عَلَيْهِ بِالْأَيَادِي وَهُوَ يُنْكِرُهَا وَيَكْفُرُهَا: أَلَمْ تَكُ فَقِيرًا فَأَغْنَيْتُك؟ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ تَكُ عريانا فَكَسَوْتُك؟ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ تَكُ خَامِلًا فَعَرَّفْتُك؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ التَّكْرَارِ الْمُتَوَالِي كَمَا فِي الْيَمِينِ الْمُكَرَّرَةِ. وَكَذَلِكَ مَا يَقوله بَعْضُهُمْ إنَّهُ قَدْ يَعْطِفُ الشَّيْءَ لِمُجَرَّدِ تَغَايُرِ اللَّفْظِ كَقوله: فَأَلْفَى قولها كَذِبًا وَمَيْنَا فَلَيْسَ فِي القرآن مِنْ هَذَا شَيْءٌ. وَلَا يَذْكُرُ فِيهِ لَفْظًا زَائِدًا إلَّا لِمَعْنَى زَائِدٍ وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ التَّوْكِيدِ وَمَا يَجِيءُ مِنْ زِيَادَةِ اللَّفْظِ فِي مِثْلِ قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وَقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} وَقوله: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فَالْمَعْنَى مَعَ هَذَا أَزْيَدُ مِنْ الْمَعْنَى بِدُونِهِ. فَزِيَادَةُ اللَّفْظِ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى وَقُوَّةُ اللَّفْظِ لِقُوَّةِ الْمَعْنَى. وَالضَّمُّ أَقْوَى مِنْ الْكَسْرِ وَالْكَسْرُ أَقْوَى مِنْ الْفَتْحِ. وَلِهَذَا يَقْطَعُ عَلَى الضَّمِّ لِمَا هُوَ أَقْوَى مِثْلُ (الْكُرْهِ) و(الْكَرْهِ). فَالْكُرْهُ هُوَ الشَّيْءُ الْمَكْرُوهُ كَقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} وَالْكَرْهُ الْمَصْدَرُ كَقوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}. وَالشَّيْءُ الَّذِي فِي نَفْسِهِ مَكْرُوهٌ أَقْوَى مِنْ نَفْسِ كَرَاهَةِ الْكَارِهِ. وَكَذَلِكَ (الذِّبْحُ) و(الذَّبْحُ) فَالذِّبْحُ: الْمَذْبُوحُ كَقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وَالذَّبْحُ: الْفِعْلُ. وَالذِّبْحُ. مَذْبُوحٌ وَهُوَ جَسَدٌ يُذْبَحُ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ.
قال أَبُو الْفَرَجِ: وَالْقول الثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فِي حَالِي هَذِهِ {وَلَا أَنْتُمْ} فِي حَالِكُمْ هَذِهِ {عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} فِي مَا اسْتَقْبَلَ وَكَذَلِكَ {أَنْتُمْ} فَنَفَى عَنْهُمْ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. وَهَذَا فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُقَاتِلٍ. فَلَا يَكُونُ حِينَئِذٍ تَكْرَارٌ.
قال: وَهَذَا قول ثَعْلَبٍ وَالزَّجَّاجِ.
قلت: قَدْ ذَكَرَ الْقوليْنِ جَمَاعَةٌ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقول الْأَوَّلَ قول أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَعَانِي. فَقالوا وَاللَّفْظُ للبغوي: مَعْنَى الْآيَةِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْحَالِ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فِي الِاسْتِقْبَالِ. وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
قال وَقال أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي: نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَجَارِي خِطَابِهِمْ. وَمِنْ مَذَاهِبِهِمْ التَّكْرَارُ إرَادَةً لِلتَّوْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ كَمَا أَنَّ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ الِاخْتِصَارَ لِلتَّخْفِيفِ وَالْإِيجَازِ.
قلت: وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ الثَّانِي مِنْهُمْ المهدوي وَابْنُ عَطِيَّةَ.
قال ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا كَانَ قوله: {لَا أَعْبُدُ} مُحْتَمِلًا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْآنَ وَيَبْقَى الْمُسْتَأْنِفُ مُنْتَظِرًا مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ عِبَادَتِهِ جَاءَ الْبَيَانُ بِقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} أَيْ أَبَدًا مَا حَيِيت. ثُمَّ جَاءَ قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} الثَّانِي حَتْمًا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا كَاَلَّذِينَ كَشَفَ الْغَيْبَ عَنْهُمْ كَمَا قِيلَ لِنُوحِ {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} أَمَا إنَّ هَذَا فَخِطَابٌ لِمُعينين وَقَوْمُ نُوحٍ قَدْ عَمُوا بِذَلِكَ.
قال: فَهَذَا مَعْنَى التَّرْدِيدِ الَّذِي فِي السُّورَةِ وَهُوَ بَارِعُ الْفَصَاحَةِ. وَلَيْسَ هُوَ بِتَكْرَارِ فَقَطْ بَلْ فِيهِ مَا ذَكَرْته مَعَ الْإِبْلَاغِ وَالتَّوْكِيدِ وَزِيَادَةُ الْأمر بَيَانًا وَتَبَرِّيًا مِنْهُمْ.
قلت: هَذَا الْقول أَجْوَدُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ بَيَانِهِمْ لِمَعْنَى زَائِدٍ عَلَى التَّكْرِيرِ. لَكِنْ فِيهِ نَقْصٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَهُوَ جَعْلُهُمْ هَذَا خِطَابًا لِمُعينين فَنَقَصُوا مَعْنَى السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا غَلَطٌ.
فَإِنَّ قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} خِطَابٌ لِكُلِّ كَافِرٍ وَكَانَ يَقرأ بِهَا فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَوْتِ أُولَئِكَ الْمُعينين وَيَأمر بِهَا وَيَقول هِيَ بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ. فَلَوْ كَانَتْ خِطَابًا لِأُولَئِكَ الْمُعينين أَوْ لِمَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا لَمْ يُخَاطِبْ بِهَا مَنْ لَمْ يعلم ذَلِكَ مِنْهُ. وَأَيْضًا فَأُولَئِكَ الْمُعَيَّنُونَ إنْ صَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا خَاطَبَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ. وَالْقول بِأَنَّهُ إنَّمَا خَاطَبَ بِهَا مُعينين قول لَمْ يَقُلْهُ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. وَلَكِنْ قَدْ قال مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَالْمُسْتَهْزِئِين وَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ أحد. ونقل مُقَاتِلٍ وَحْدَهُ مِمَّا لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كنقل الْكَلْبِيِّ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ لَا يَذْكُرُونَ عَنْ واحد مِنْهُمَا شَيْئًا كَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ هَذَا عَنْ قُرَيْشٍ مُطْلَقًا كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حميد عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قال: قالتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنْ سَرَّك أَنْ نَدْخُلَ فِي دِينِك عَامًا وَتَدْخُلَ فِي دِينِنَا عَامًا فَنَزَلَتْ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حَتَّى خَتَمَهَا.
وعن ابْن عَبَّاسٍ قالتْ قُرَيْشٌ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ اسْتَلَمْت آلِهَتَنَا لَعَبَدْنَا إلَهَك فَنَزَلَتْ السُّورَةُ.
وعن قتادة قال: أمرهُ اللَّهُ أَنْ يُنَادِيَ الْكُفَّارَ فَنَادَاهُمْ بِقوله: {يَا أَيُّهَا}.
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ.
قال كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَذَكَرَهُ.
وقال عِكْرِمَةُ: بَرَّأَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ السُّورَةِ مِنْ عَبَدَةِ جَمِيعِ الْأَوْثَانِ وَدِينِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَقال قتادة: أمر اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ.
وروى قتادة عَنْ زرارة بْنِ أَوْفَى: كَانَتْ تُسَمَّى (الْمُقَشْقَشَةَ). يُقال: قَشْقَشَ فُلَانٌ إذَا بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ فَهِيَ تُبَرِّئُ. صَاحَبَهَا مِنْ الشِّرْكِ. وَبِهَذَا نَعَتَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ فِي الْمَسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال لَهُ: «مَجِيء مَا جَاءَ بِك؟» قال: جِئْت يَا رسول اللّه لِتُعَلِّمَنِي شَيْئًا أَقوله عِنْدَ مَنَامِي.
قال: «إذَا أَخَذْت مَضْجَعَك فَاقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ». رَوَاهُ غير واحد عَنْ أَبِي إسْحَاقَ وَكَانَ تَارَةً يُسْنِدُهُ وَتَارَةً يُرْسِلُهُ رَوَاهُ عَنْهُ زُهَيْرٌ وَإِسْرَائِيلُ مُسْنَدًا؛ وَرَوَاهُ عَنْهُ شُعْبَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ أَبِيهِ وَقال عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَلَمْ يَقُلْ (عَنْ أَبِيهِ).
قال التِّرْمِذِيُّ: وَحَدِيثُ زُهَيْرٍ أَشْبَهُ وَأَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
قال: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَوْفَلٍ هُوَ أَخُو فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ.
قلت: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ قال: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقال: يَا رسول اللّه عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقوله عِنْدَ مَنَامِي.
قال: «إنَّك لَنَا ظِئْرٌ اقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عِنْدَ مَنَامِك فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ».
فَقَدْ أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم واحدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقرأهَا وَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ. فَلَوْ كَانَ الْخِطَابُ لِمَنْ يَمُوتُ عَلَى الشِّرْكِ كَانَتْ بَرَاءَةً مِنْ دِينِ أُولَئِكَ فَقَطْ لَمْ تَكُنْ بَرَاءَةً مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي يُسْلِمُ صَاحِبُهُ فِيمَا بَعْدُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ بَرَاءَةً مِنْ كُلِّ شِرْكٍ اعْتِقَادِيٍّ وَعَمَلِيٍّ.
وَقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} خِطَابٌ لِكُلِّ كَافِرٍ وَإِنْ أَسْلَمَ فِيمَا بَعْدُ. فَدِينُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَهُ كَانَ وَالْمُؤْمِنُونَ بَرِيئُونَ مِنْهُ وَإِنْ غَفَرَهُ اللَّهُ لَهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ كَمَا قال لِنَبِيِّهِ {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} فَإِنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ مَعَاصِي أَصْحَابِهِ وَإِنْ تَابُوا مِنْهَا. وَهَذَا كَقوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}.
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الجرشي ثَنَا أَبُو خَلَفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى ثَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا دَعَوْا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلَى أَنْ يُعْطُوهُ مَالًا فَيَكُونَ أَغْنَى رَجُلٍ فِيهِمْ وَيُزَوِّجُوهُ مَا أَرَادَ مِنْ النِّسَاءِ وَيَطَئُوا عَقِبَهُ أَيْ يُسَوِّدُوهُ فَقالوا: هَذَا لَك عِنْدَنَا يَا مُحَمَّدُ وَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا فَلَا تَذْكُرُهَا بِسُوءِ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْك خَصْلَةً واحدة وَهِيَ لَك وَلَنَا فِيهَا صَلَاحٌ.
قال: مَا هِيَ؟.
قالوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَنَعْبُدُ إلَهَك سَنَةً.
قال حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي مِنْ رَبِّي. فَجَاءَهُ الْوَحْيُ مِنْ اللَّهِ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلَى آخِرِهَا وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأمرونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
وَقوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأمرونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} خِطَابٌ لِكُلِّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَتُوبَ فِيمَا بَعْدُ. وَكَذَلِكَ كَلُّ مُؤْمِنٍ يُخَاطِبُ بِهَذَا مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ. وَقوله فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي مِنْ رَبِّي». قَدْ يَقول هَذَا مَنْ يَقْصِدُ بِهِ دَفْعَ الظَّالِمِينَ بِاَلَّتِي هِيَ أحسن لِيَجْعَلَ حُجَّتَهُ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ طَاعَتُهُ قَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَيُؤَخِّرُ الْجَوَابَ حَتَّى يَسْتَأمرهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ يعلم أَنَّ هَذَا الْقول الَّذِي قالوهُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَقَدْ تُخْطَبُ إلَى الرَّجُلِ ابْنَتُهُ فَيَقول: حَتَّى أُشَاوِرَ أُمَّهَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا بِذَلِك. وَيعلم أَنَّ أُمَّهَا لَا تُشِيرُ لَهُ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَقول النَّائِبُ: حَتَّى أُشَاوِرَ السُّلْطَانَ. فَلَيْسَ فِي مِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ تَرَدُّدٌ وَلَا تَجْوِيزٌ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ الَّذِينَ يَأمرونَهُ وَأَصْحَابَهُ أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَيُقَاتِلُونَهُمْ وَيُعَادُونَهُمْ عَدَاوَةً عَظِيمَةً عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَابُوا وَأَسْلَمُوا وَقَرَءُوا هَذِهِ السُّورَةَ. وَمِنْ النَّقَلَةِ مَنْ يُعَيِّنُ نَاسًا غَيْرَ الَّذِينَ عَيَّنَهُمْ غَيْرُهُ. مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ أَبَا جَهْلٍ وَطَائِفَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ عتبة بْنَ رَبِيعَةَ وَطَائِفَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ الْوَلِيدَ بْنَ مُغِيرَةَ وَطَائِفَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقول: طَلَبُوا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مَعَهُ عَامًا وَيَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ مَعَهُمْ عَامًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقول: طَلَبُوا أَنْ يَسْتَلِمَ آلِهَتَهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقول: طَلَبُوا الِاشْتِرَاكَ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ قال: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ مَوْلَى أَبِي البختري قال لَقِيَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ والعاص بْنُ وَائِلٍ وَالْأُسُودُ بْنُ الْمُطَّلِبِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَقالوا: هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ وَتَعْبُدْ مَا نَعْبُدُ وَلْنَشْتَرِك نَحْنُ وَأَنْتَ فِي أمرنَا كُلِّهِ. فَإِنْ كَانَ الَّذِي جِئْت بِهِ خَيْرًا مِمَّا بِأَيْدِينَا كُنَّا قَدْ شَرِكْنَاك فِيهِ وَأَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْرًا مِمَّا بِيَدِك كُنْت قَدْ شَرِكْتنَا فِي أمرنَا وَأَخَذْت بِحَظِّك مِنْهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ. وَهَذَا مَنْقول عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَفِيهِ أَنَّ الْقَائِلَ لَهُ عتبة وَأُمَيَّةُ. فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَطَابِقَةٌ عَلَى معنى واحد وَهُوَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ وَيَدْخُلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ كُلُّهَا صَحِيحَةً فَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ تَارَةً هَذَا وَتَارَةً هَذَا وَقَوْمُ هَذَا وَقَوْمُ هَذَا. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ كُلِّهِمْ مَنْ مَضَى وَمَنْ يَأْتِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ أمرهُ اللَّهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سو اه. وَهَذِهِ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَهُوَ مَبْعُوثٌ بِمِلَّتِهِ.
قال اللَّهُ تعالى: {وَإِذْ قال إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}.
وقال الْخَلِيلُ أَيْضًا: {يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قالوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}.
وقال لِنَبِيِّهِ: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. فَقَدْ أمرهُ اللَّهُ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِ كُلِّ مَنْ كَذَّبَهُ وَتَبَرِّيه هَذَا يَتَنَاوَلُ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ. وَقَدْ ذَكَرَ المهدوي هَذَا الْقول وَذَكَرَ مَعَهُ قوليْنِ آخَرَيْنِ. فَقال: الْأَلِفُ وَاللَّامُ تَرْجِعُ إلَى مَعْهُودٍ وَإِنْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ حَيْثُ كَانَتْ صِفَةً لِأَنَّ لَامَهَا مُخَاطِبَةٌ لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يَمُوتَ كَافِرًا. فَهِيَ مِنْ الْخُصُوصِ الَّذِي جَاءَ بِلَفْظِ الْعُمُومِ. وَتَكْرِيرُ مَا كَرَّرَ فِيهَا لَيْسَ بِتَكْرِيرِ فِي الْمَعْنَى وَلَا فِي اللَّفْظِ سِوَى موضع واحد مِنْهَا. فَإِنَّهُ تَكْرِيرٌ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى. بَلْ مَعْنَى {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فِي الْحَالِ {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فِي الْحَالِ {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} فِي الِاسْتِقْبَالِ {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فِي الِاسْتِقْبَالِ.
قال: فَقَدْ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي قوله: {لَا أَعْبُدُ} وَمَا بَعْدَهُ {وَلَا أَنَا}. وَتَكَرَّرَ {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى.
قال: وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى الأول: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا عَبَدْت وَمَعْنَى الثاني: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. فَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ (عَبَدْت) لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَا عَبَدَ فِي الْمَاضِي هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَقَعُ أحدهُمَا مَوْقِعَ الْآخَرِ. وَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي ذَلِكَ فِي إخْبَارِ اللَّهِ تعالى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (ما) وَالْفِعْلُ مَصْدَرًا وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى الْآيَاتِ وَتَقْدِيرَهَا: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ الْأَصْنَامَ. الَّذِي تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ الَّذِي أَعْبُدُهُ لِإِشْرَاكِكُمْ بِهِ وَاِتِّخَاذِكُمْ مَعَهُ الْأَصْنَامَ. فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهُ فَأَنْتُمْ كَاذِبُونَ لِأَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهُ مُشْرِكِينَ بِهِ. فَأَنَا لَا أَعْبُدُ مَا عَبَدْتُمْ أَيْ مِثْلُ عِبَادَتِكُمْ. فَهُوَ فِي الثَّانِي مَصْدَرٌ. وَكَذَلِكَ {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} هُوَ فِي الثَّانِي مَصْدَرٌ أَيْضًا مَعْنَاهُ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مِثْلَ عِبَادَتِي الَّتِي هِيَ تَوْحِيدٌ.
قُلْت: الْقول الثَّالِثُ هُوَ فِي مَعْنَى الثَّانِي لَكِنْ جَعَلَ قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} مَعْنَيَيْنِ: أحدهُمَا بِمَعْنَى (مَا عَبَدْت) وَالْآخِرَ بِمَعْنَى (مَا أَعْبُدُ) لِيُطَابِقَ قوله لَهُمْ {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ}. فَلَمَّا تَبَرَّأَ مِنْ أَنْ يَعْبُدَ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ مَا يَعْبُدُونَهُ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ كَذَلِكَ بَرَّأَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ مَا يَعْبُدُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. لَكِنَّ الْعِبَارَةَ عَنْهُمْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ الْمَاضِي.
قال هَؤُلَاءِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ فِي حَقِّهِ: (مَا عَبَدْت) لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَا أَعْبُدُهُ فِي الْمَاضِي هُوَ الَّذِي أَعْبُدُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.